سورة يوسف - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


هذه السورة مكية كلها. وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات من أولها. وسبب نزولها أن كفار مكة أمرتهم اليهود أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فنزلت. وقيل: سببه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما كان يفعل به قومه بما فعل إخوة يوسف به. وقيل: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحدثهم أمر يعقوب وولده، وشأن يوسف. وقال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن فتلاه عليهم زماناً فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا، فنزلت.
ووجه مناسبتها لما قبلها وارتباطها أن في آخر السورة التي قبلها: {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} وكان في تلك الأنباء المقصوصة فيها ما لاقى الأنبياء من قومهم، فاتبع ذلك بقصة يوسف، وما لاقاه من أخوته، وما آلت إليه حاله من حسن العاقبة، ليحصل للرسول صلى الله عليه وسلم التسلية الجامعة لما يلاقيه من أذى البعيد والقريب. وجاءت هذه القصة مطولة مستوفاة، فلذلك لم يتكرر في القرآن إلا ما أخبر به مؤمن آل فرعون في سورة غافر. والإشارة بتلك آيات إلى الر وسائر حروف المعجم التي تركبت منها آيات القرآن، أو إلى التوراة والإنجيل، أو الآيات التي ذكرت في سورة هود، أو إلى آيات السورة. والكتاب المبين السورة أي: تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة أقوال. والظاهر أنّ المراد بالكتاب القرآن. والمبين إما البين في نفسه الظاهر أمره في إعجاز العرب وتبكيتهم، وإما المبين الحلال والحرام والحدود والأحكام وما يحتاج إليه من أمر الدين، قاله: ابن عباس ومجاهد، أو المبين الهدى والرشد والبركة قاله قتادة، أو المبين ما سألت عنه اليهود، أو ما أمرت أن يسأل من حال انتقال يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف، أو المبين من جهة بيان اللسان العربي وجودته، إذ فيه ستة أحرف لم تجمع في لسان، روي هذا عن معاذ بن جبل. قال المفسرون: وهي الطاء، والظاء، والضاد، والصاد، والعين، والخاء انتهى. والضمير في إنا أنزلناه، عائد على الكتاب الذي فيه قصة يوسف، وقيل: على القرآن، وقيل: على نبأ يوسف، قاله الزجاج وابن الأنباري. وقيل: هو ضمير الإنزال. وقرآناً هو المطعوف به، وهذان ضعيفان. وانتصب قرآناً، قيل: على البدل من الضمير، وقيل على الحال الموطئة. وسمي القرآن قرآناً لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير، وعربياً منسوب إلى العرب. والعرب جمع عربي، كروم ورومي، وعربة ناحية دار إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. قال الشاعر:
وعربة أرض ما يحل حرامها *** من الناس إلا اللوذعي الحلاحل
ويعني النبي صلى الله عليه وسلم أحلت له مكة. وسكن راء عربة الشاعر ضرورة. قيل: وإن شئت نسبت القرآن إليها ابتداء أي: على لغة أهل هذه الناحية. لعلكم تعقلون ما تضمن من المعاني، واحتوى عليه من البلاغة والإعجاز فتؤمنون، إذ لو كان بغير العربية لقيل: {لولا فصلت آياته}


القصص: مصدر قص، واسم مفعول إما لتسميته بالمصدر، وأما لكون الفعل يكون للمفعول، كالقبض والنقص. والقصص هنا يحتمل الأوجه الثلاثة. فإن كان المصدر فالمراد بكونه أحسن أنه اقتص على أبدع طريقة، وأحسن أسلوب. ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتص في كتب الأولين، وفي كتب التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارباً لاقتصاصه في القرآن، وإن كان المفعول فكان أحسنه لما يتضمن من العبر والحكم والنكت والعجائب التي ليس في غيره. والظاهر أنه أحسن ما يقص في بابه كما يقال للرجل: هو أعلم الناس وأفضلهم، يراد في فنه.
وقيل: كانت هذه السورة أحسن القصص لانفرادها عن سائرها بما فيها من ذكر الأنبياء، والصالحين، والملائكة، والشياطين، والجن، والإنس، والأنعام، والطير، وسير الملوك، والممالك، والتجار، والعلماء، والرجال، والنساء وكيدهن ومكرهن، مع ما فيها من ذكر التوحيد، والفقه، والسير، والسياسة، وحسن الملكة، والعفو عند المقدرة، وحسن المعاشرة، والحيل، وتدبير المعاش، والمعاد، وحسن العاقبة، في العفة، والجهاد، والخلاص من المرهوب إلى المرغوب، وذكر الحبيب والمحبوب، ومرأى السنين وتعبير الرؤيا، والعجائب التي تصلح للدين والدنيا. وقيل: كانت أحسن القصص لأنّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة. انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته وامرأة العزيز والملك أسلم بيوسف وحسن إسلامه. ومعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فيما يقال. وقيل: أحسن هنا ليست أفعل التفضيل، بل هي بمعنى حسن، كأنه قيل: حسن القصص، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي: القصص الحسن. وما في بما أوحينا مصدرية أي: بإيحائنا. وإذا كان القصص مصدراً فمفعول نقص من حيث المعنى هو هذا القرآن، إلا أنه من باب الإعمال، إذ تنازعه نقص. وأوحينا فاعمل الثاني على الأكثر، والضمير في من قبله يعود على الإيحاء. وتقدمت مذاهب النحاة في أن المخففة ومجيء اللام في ثاني الجزءين. ومعنى من الغافلين: لم يكن لك شعور بهذه القصة، ولا سبق لك علم فيها، ولا طرق سمعك طرف منها. والعامل في إذ قال الزمخشري وابن عطية: اذكر. وأجاز الزمخشري أن تكون بدلاً من أحسن القصص قال: وهو بدل اشتمال، لأن الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص، فإذا قص وقته فقد قص. وقال ابن عطية: ويجوز أن يعمل فيه نقص كان المعنى: نقص عليك الحال، إذ وهذه التقديرات لا تتجه حتى تخلع إذ من دلالتها على الوقت الماضي، وتجرد للوقت المطلق الصالح للأزمان كلها على جهة البدلية.
وحكى مكي أنّ العامل في إذ الغافلين، والذي يظهر أن العامل فيه قال: يا بني، كما تقول: إذ قام زيد قام عمر، وتبقى إذ على وضعها الأصلي من كونها ظرفاً لما مضى.
ويوسف اسم عبراني، وتقدمت ست لغات فيه. ومنعه الصرف دليل على بطلان قول من ذهب إلى أنه عربي مشتق من الأسف، وإن كان في بعض لغاته يكون فيه الوزن الغالب، لامتناع أن يكون أعجمياً غير أعجمي. وقرأ طلحة بن مصرف بالهمز وفتح السين. وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر، والأعرج: يا أبت بفتح التاء، وباقي السبعة والجمهور بكسرها، ووقف الابنان عليها بالهاء، وهذه التاء عوض من ياء الإضافة فلا يجتمعان، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء قال: يا أبتا علك أو عساكا. ووجه الاقتصار على التاء مفتوحة أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف، أو رخم بحذف التاء، ثم أقحمت قاله أبو علي. أو الألف في أبتا للندبة، فحذفها قاله: الفراء، وأبو عبيد، وأبو حاتم، وقطرب. ورد بأنه ليس موضع ندبة أو الأصل يا أبة بالتنوين، فحذف والنداء ناد حذف قاله قطرب، ورد بأنّ التنوين لا يحذف من المنادي المنصوب نحو: يا ضارباً رجلاً، وفتح أبو جعفر ياء إني.
وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وطلحة بن سليمان: أحد عشر بسكون العين لتوالي الحركات، وليظهر جعل الاسمين اسماً واحداً. ورأيت هي حلمية لدلالة متعلقها على أنه منام، والظاهر أنه رأى في منامه كواكب الشمس والقمر. وقيل: رأى إخوته وأبويه، فعبر عنهم بذلك، وعبر عن الشمس عن أمه. وقيل: عن خالته راحيل، لأنّ أمه كانت ماتت. ومن حديث جابر بن عبد الله: أن يهودياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف، فسكت عنه، ونزل جبريل فأخبره بأسمائها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودي فقال: هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك؟ فقال: نعم. قال: جريان، والطارق، والذيال، وذو الكتفين، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروح، والفرغ، والضياء، والنور. فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها. وذكر السهيلي مسنداً إلى الحرث بن أبي أسامة فذكر الحديث، وفيه بعض اختلاف، وذكر النطح عوضاً عن المصبح. وعن وهب أن يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة، وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها، فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب سجوداً له فقصها على أبيه فقال له: لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل، وكان بين رؤيا يوسف ومسير إخوته إليه أربعون سنة، وقيل: ثمانون. وروي أن رؤيا يوسف كانت ليلة القدر ليلة جمعة. والظاهر أنّ الشمس والقمر ليسا مندرجين في الأحد عشر كوكباً، ولذلك حين عدهما الرسول لليهودي ذكر أحد عشر كوكباً غير الشمس والقمر، ويظهر من كلام الزمخشري أنهما مندرجان في الأحد عشر.
قال الزمخشري: (فإن قلت): لم أخر الشمس والقمر؟ (قلت): أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص إثباتاً لفضلهما، واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة ثم عطفهما عليهما. لذلك ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أي: رأيت الكواكب مع الشمس والقمر انتهى. والذي يظهر أن التأخير إنما هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ولم يقع الترقي في الشمس والقمر جرياً على ما استقر في القرآن من أنه إذا اجتمعا قدمت عليه. قال تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} وقال: وجمع الشمس والقمر {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً} وقدمت عليه لسطوع نورها وكبر جرمها وغرابة سيرها، واستمداده منها، وعلو مكانها. والظاهر أنّ رأيتهم كرر على سبيل التوكيد للطول بالمفاعيل، كما كرر إنكم في قوله {إنكم مخرجون} لطول الفصل بالظرف وما تعلق به.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى تكرار رأيتهم؟ (قلت): ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جواباً له، كان يعقوب عليه السلام قال له عند قوله: إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر، كيف رأيتها سائلاً عن حال رؤيتها؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين انتهى. وجمعهم جمع من يعقل، لصدور السجود له، وهو صفة من يعقل، وهذا سائغ في كلام العرب، وهو أنْ يعطى الشيء حكم الشيء للاشتراك في وصف ما، وإن كان ذلك الوصف أصله أن يخص أحدهما. والسجود: سجود كرامة، كما سجدت الملائكة لآدم. وقيل: كان في ذلك الوقت السجود تحية بعضهم لبعض. ولما خاطب يوسف أباه بقوله: يا أبت، وفيه إظهار الطواعية والبر والتنبيه على محل الشفقة بطبع الأبوة خاطبه أبوه بقوله: يا بني، تصغير التحبيب والتقريب والشفقة. وقرأ حفص هنا وفي لقمان، والصافات: يا بني بفتح الياء. وابن كثير في لقمان {يا بني لا تشرك} وقنبل يا بنيْ أقمْ بإسكانها، وباقي السبعة بالكسر. وقرأ زيد بن علي: لا تقص مدغماً، وهي لغة تميم، والجمهور بالفك وهي لغة الحجاز. والرؤيا مصدر كالبقيا. وقال الزمخشري: الرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصة بما كان في النوم دون اليقظة، فرق بينهما بحر في التأنيث كما قيل: القربة والقربى انتهى. وقرأ الجمهور: رؤياك والرؤيا حيث وقعت بالهمز من غير إمالة. وقرأ الكسائي: بالإمالة وبغير الهمز، وهي لغة أهل الحجاز.
وإخوة يوسف: هم كاذ، وبنيامين، ويهوذا، ونفتالي، وزبولون، وشمعون، وروبين، ويقال باللام كجبريل، وجبرين، ويساخا، ولاوي، وذان، وياشير، فيكيدوا لك: منصوب بإضمار أنْ على جواب النهي، وعدي فيكيدوا باللام، وفي {فكيدوني} بنفسه، فاحتمل أن يكون من باب شكرت زيداً وشكرت لزيد، واحتمل أن يكون من باب التضمين، ضمّن فيكيدوا معنى ما يتعدى باللام، فكأنه قال: فيحتالوا لك بالكيد، والتضمين أبلغ لدلالته على معنى الفعلين، وللمبالغة أكد بالمصدر.
ونبه يعقوب على سبب الكيد وهو: ما يزينه الشيطان للإنسان ويسوله له، وذلك للعداوة التي بينهما، فهو يجتهد دائماً أنْ يوقعه في المعاصي ويدخله فيها ويحضه عليها، وكان يعقوب دلته رؤيا يوسف عليهما السلام على أنّ الله تعالى يبلغه مبلغاً من الحكمة، ويصطفه للنبوة، وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه، فخاف عليه من حسد إخوته، فنهاه من أن يقص رؤياه لهم. وفي خطاب يعقوب ليوسف تنهيه عن أن يقص على إخوته مخافة كيدهم، دلالة على تحذير المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه، والتنبيه على بعض ما لا يليق، ولا يكون ذلك داخلاً في باب الغيبة. وكذلك يجتبيك ربك أي: مثل ذلك الاجتباء، وهو ما أراه من تلك الرؤيا التي دلت على جليل قدره، وشريف منصبه، ومآله إلى النبوة والرسالة والملك. ويجتبيك: يختارك ربك للنبوة والملك. قال الحسن: للنبوة، وقال مقاتل: للسجود لك، وقال الزمخشري: لأمور عظام. ويعلمك من تأويل الأحاديث كلام مستأنف ليس داخلاً في التشبيه، كأنه قال: وهو يعلمك. قال مجاهد والسدي: تأويل الأحاديث عبارة الرؤيا. وقال الحسن: عواقب الأمور، وقيل: عامة لذلك ولغيره من المغيبات، وقال مقاتل: غرائب الرؤيا، وقال ابن زيد: العلم والحكمة.
وقال الزمخشري: الأحاديث الرؤى، لأن الرؤى إما حديث نفس أو ملك أو شيطان، وتأويلها عبارتها وتفسيرها، فكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا وأصحهم عبارة. ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسير الأنبياء، وما غمض واشتبه على الناس في أغراضها ومقاصدها، يفسرها لهم ويشرحها، ويدلهم على مودعات حكمها. وسميت أحاديث لأنها تحدث بها عن الله ورسله فيقال: قال الله: وقال الرسول: كذا وكذا. ألا ترى إلى قوله: {فبأي حديث بعده يؤمنون} {الله نزل أحسن الحديث} كتاباً وهي اسم جمع للحديث، وليس بجمع أحدوثة انتهى. وليس باسم جمع كما ذكر، بل هو جمع تكسير لحديث على غير قياس، كما قالوا: أباطل وأباطيل، ولم يأت اسم جمع على هذا الوزن. وإذا كانوا يقولون في عباديد ويناذير أنهما جمعا تكسير ولم يلفظ لهما بمفرد، فكيف لا يكون أحاديث وأباطيل جمعي تكسير؟.
ويتم نعمته عليك، وإتمامها بأنه تعالى وصل لهم نعمة الدنيا بأن جعلهم أنبياء وملوكاً، بنعمة الآخرة بأن نقلهم إلى أعلى الدرجات في الجنة. وقال مقاتل: بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك، وقال الحسن: هذا شيء أعلمه الله يعقوب من أنه سيعطي يوسف النبوّة. وقيل: بأن يحوج إخوتك إليك، فتقابل الذنب بالغفران، والإساءة بالإحسان. وقيل: بإنجائك من كل مكروه. وآل يعقوب الظاهر أنه أولاده ونسلهم أي: نجعل النبوة فيهم. وقال الزمخشري: هم نسلهم وغيرهم. وقيل أهل دينه وأتباعهم، كما جاء في الحديث: من آلك؟ فقال: «كل تقي» وقيل: امرأته وأولاده الأحد عشر. وقيل: المراد يعقوب نفسه خاصة. وإتمام النعمة على إبراهيم بالخلة، والإنجاء من النار، وإهلاك عدوه نمروذ. وعلى إسحاق بإخراج يعقوب والأسباط من صلبه. وسمي الجد وأبا الجد أبوين، لأنهما في عمود النسب كما قال: {وإله آبائك} ولهذا يقولون: ابن فلان، وإن كان بينهما عدة في عمود النسب. إن ربك عليم بمن يستحق الاجتباء، حكيم يضع الأشياء مواضعها. وهذان الوصفان مناسبان لهذا الوعد الذي وعده يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام في قوله: وكذلك يجتبيك ربك قيل: وعلم يعقوب عليه السلام ذلك من دعوة إسحاق عليه السلام حين تشبه له بعيصو.


الطرح للشيء رميه وإلقاؤه، وطرح عليه الثوب ألقاه، وطرحت الشيء أبعدته ومنه قول عروة بن الورد:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا *** من المال يطرح نفسه كل مطرح
والنوى: الطروح البعيدة. الجب: الركية التي لم تطو، فإذا طويت فهي بئر. قال الأعشى:
لئن كنت في جب ثمانين قامة *** ورقيت أسباب السماء بسلم
ويجمع على جبب وجباب وأجباب، وسمى جباً لأنه قطع في الأرض، من جببت أي قطعت. الالتقاط: تناول الشيء من الطريق، يقال: لقطه والتقطه. وقال: ومنهل لقطته التقاطاً. ومنه: اللقطة واللقيط.
{لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين}: آيات أي: علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء للسائلين من سأل عنهم وعرف قصتهم. وقيل: آيات على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد، ولا قراءة كتاب. والذي يظهر أن الآيات الدلالات على صدق الرسول وعلى ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه، وصدق رؤياه، وصحة تأويله، وضبط نفسه وقهرها حتى قام بحق الأمانة، وحدوث السرور بعد اليأس. وقيل: المعنى لمن سأل ولمن لم يسأل لقوله: {سواء للسائلين} أي سواء لمن سأل ولمن لم يسأل. وحسن الحذف لدلالة قوة الكلام عليه لقوله: {سرابيل تقيكم الحر} أي والبرد. وقال ابن عطية: وقوله للسائلين، يقتضي تحضيضاً للناس على تعلم هذه الأنباء لأنه إنما المراد آيات للناس، فوصفهم بالسؤال، إذ كل أحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص، إذ هي مقر العبر والاتعاظ. وتقدم لنا ذكر أسماء إخوة يوسف منقولة من خط الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، ونقلها من خط الشريف النقيب النسابة أبى البركات محمد بن أسعد الحسيني الجوّاني محرّرة بالنقط، وتوجد في كتب التفسير محرفة مختلفة، وكان روبيل أكبرهم، وهو ويهوذا، وشمعون، ولاوي، وزبولون، ويساخا، شقائق أمهم ليا بنت ليان بن ناهر بن آزر وهي: بنت خال يعقوب، وذان ونفتالي، وكاذ وياشير، أربعة من سريتين كانتا لليا وأختها راحيل، فوهبتا هما ليعقوب، فجمع بينهما ولم يحل الجمع بين الأختين لأحد بعده. وأسماء السريتين فيما قيل: ليا، وتلتا، وتوقيت أم السبعة فتزوج بعدها يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، وماتت من نفاسه.
وقرأ مجاهد، وشبل وأهل مكة، وابن كثير: آية على الإفراد.
والجمهور آيات، وفي مصحف أبي عبرة للسائلين مكان آية. والضمير في قالوا عائد على أخوة يوسف وأخوه هو بنيامين، ولما كانا شقيقين أضافوه إلى يوسف. واللام في ليوسف لام الابتداء، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أي: كثرة حبه لهما ثابت لا شبهة فيه. وأحب أفعل تفضيل، وهي مبني من المفعول شذوذاً، ولذلك عدى بإلى، لأنه إذا كان ما تعلق به فاعلاً من حيث المعنى عدى إليه بإلى، وإذا كان مفعولاً عدى إليه بفي، تقول: زيد أحب إلى عمرو من خالد، فالضمير في أحب مفعول من حيث المعنى، وعمرو هو المحب. وإذا قلت: زيد أحب إلى عمرو من خالد، كان الضمير فاعلاً، وعمرو هو المحبوب. ومن خالد في المثال الأول محبوب، وفي الثاني فاعل، ولم يبن أحب لتعدّيه بمن. وكان بنيامين أصغر من يوسف، فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما وموت أمهما، وحب الصغير والشفقة عليه مركوز في فطرة البشر. وقيل لابنة الحسن: أي بنيك أحب إليك؟ قالت: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يقدم، والمريض حتى يفيق. وقد نظم الشعراء في محبة الولد الصغير قديماً وحديثاً، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري في قصيدته التي بعث بها إلى أولاده وهو في السجن:
وصغيركم عبد العزيز فإنني *** أطوي لفرقته جوى لم يصغر
ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا *** كفؤاً لكم في المنتمى والعنصر
إن البنان الخمس أكفاء معاً *** والحلى دون جميعها للخنصر
وإذا الفتى بعد الشباب سما له *** حب البنين ولا كحب الأصغر
ونحن عصبة جملة حالية أي: تفضلهما علينا في المحبة، وهما ابنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة، ونحن جماعة عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقة، فنحن أحق بزيادة المحبة منهما. وروى النزال بن سبرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ونحن عصبة. وقيل: معناه ونحن نجتمع عصبة، فيكون الخبر محذوفاً وهو عامل في عصبة، وانتصب عصبة على الحال، وهذا كقول العرب: حكمك مسمطاً حذف الخبر. قال المبرد: قال الفرزدق:
يا لهذم حكمك مسمطا *** أراد لك حكمك مسمطاً
واستعمل هذا فكثر حتى حذف استخفا، فالعلم السامع ما يريد القائل كقولك: الهلال والله أي: هذا الهلال، والمسمط المرسل غير المردود. وقال ابن الأنباري: هذا كما تقول العرب: إنما العامري عمته، أي يتعمم عمته انتهى. وليس مثله، لأنّ عصبة ليس مصدراً ولا هيئة، فالأجود أن يكون من باب حكمك مسمطاً. وقدره بعضهم: حكمك ثبت مسمطاً.
وعن ابن عباس: العصبة ما زاد على العشرة، وعنه: ما بين العشرة إلى الأربعين، وعن قتادة: ما فوق العشرة إلى الأربعين، وعن مجاهد: من عشرة إلى خمسة عشر، وعن مقاتل: عشرة، وعن ابن جبير: ستة أو سبعة، وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى خمسة عشر، وعن الفراء: عشرة فما زاد، وعن ابن زيد، والزجاج، وابن قتيبة: العصبة ثلاثة نفر، فإذا زادوا فهم رهط إلى التسعة، فإذا زادوا فهم عصبة، ولا يقال لأقل من عشرة عصبة.
والضلال هنا هو الهوى قاله ابن عباس، أو الخطأ من الرأي قاله ابن زيد، أو الجور في الفعل قاله ابن كامل، أو الغلط في أمر الدنيا. روي أنه بعد إخباره لأبيه بالرؤيا كان يضمه كل ساعة إلى صدره، وكأن قلبه أيقن بالفراق فلا يكاد يصبر عنه، والظاهر أنّ اقتلوا يوسف من جملة قولهم، وقيل: هو من قول قوم استشارهم أخوة يوسف فيما يفعل به فقالوا ذلك. والظاهر أو اطرحوه هو من قولهم أن يفعلوا به أحد الأمرين، ويجوز أن تكون أو للتنويع أي: قال بعض: اقتلوا يوسف، وبعض اطرحوه، وانتصب أرضاً على إسقاط حرف الجر قاله الحوفي وابن عطية، أي: في أرض بعيدة من الأرض التي هو فيها، قريب من أرض يعقوب. وقيل: مفعول ثان على تضمين اطرحوه معنى أنزلوه، كما تقول: أنزلت زيداً الدار. وقالت فرقة: ظرف، واختاره الزمخشري، وتبعه أبو البقاء. قال الزمخشري: أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الناس، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة. وقال ابن عطية: وذلك خطأ بمعنى كونها منصوبة على الظرف قال: لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهماً، وهذه ليست كذلك، بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك، فزال بذلك إبهامها. ومعلوم أنّ يوسف لم يخل من الكون في أرض فتبين أنهم أرادوا أرضاً بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه انتهى. وهذا الردّ صحيح، لو قلت: جلست داراً بعيدة، أو قعدت مكاناً بعيداً لم يصح إلا بوساطة في، ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة شعر، أو مع دخلت على الخلاف في دخلت أهي لازمة أو متعدية. والوجه هنا قيل: الذات، أي يخل لكم أبوكم. وقيل: هو استعارة عن شغله بهم، وصرف مودته إليهم، لأنّ من أقبل عليك صرف وجهه إليك وهذا كقول نعامة حين أحبته أمه لما قتل أخوته وكانت قبل لا تحبه. قال: الثكل أرامها أي: عطفها، والضمير في بعده عائد على يوسف، أو قتله، أو طرحه. وصلاحهم إما صلاح حالهم عند أبيهم وهو قول مقاتل، أو صلاحهم بالتوبة والتنصل من هذا الفعل وهذا أظهر، وهو قول الجمهور منهم الكلبي. واحتمل تكونوا أن يكون مجزوماً عطفاً على مجزوم، أو منصوباً على إضمار أنْ. والقائل: لا تقتلوا يوسف، روبيل قاله قتادة وابن إسحاق، أو شمعون قاله مجاهد، أو يهوذا وكان أحلمهم وأحسنهم فيه رأياً وهو الذي قال: فلن أبرح الأرض قال لهم: القتل عظيم، قاله السدي، أوذان: أربعة أقوال، وهذا عطف منهم على أخيهم.
لما أراد الله من إنفاذ قضائه وإبقاء على نفسه، وسبب لنجاتهم من الوقوع في هذه الكبيرة وهو إتلاف النفس بالقتل. قال الهروي: الغيابة في الجب شبه لحف، أو طاق في البئر فويق الماء يغيب ما فيه عن العيون. وقال الكلبي: الغيابة كمون في قعر الجب، لأن أسفله واسع ورأيه ضيق، فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه. وقال الزمخشري: غوره وهو ما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله انتهى. منه قيل للقبر: غيابة، قال المتنحل السعدي:
فإن أنا يوماً غيبتني غيابتي *** فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
وقرأ الجمهور: غيابة على الإفراد، ونافع: غيابات على الجمع، جعل كل جزء مما يغيب فيه غيابة. وقرأ ابن هرمز: غيابات بالتشديد والجمع، والذي يظهر أنه سمى باسم الفاعل الذي للمبالغة، فهو وصف في الأصل، وألحقه أبو علي بالاسم الجائي على فعال نحو ما ذكر سيبويه من الغياد. قال أبو الفتح: ووجدت من ذلك المبار المبرح والفخار الخزف. وقال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون على فعالات كحمامات، ويجوز أن يكون على فيعالات كشيطانات في جمع شيطانة، وكل للمبالغة. وقرأ الحسن: في غيبة، فاحتمل أن يكون في الأصل مصدراً كالغلبة، واحتمل أن يكون جمع غائب كصانع وصنعة. وفي حرف أبي في غيبة بسكون الياء، وهي ظلمة الركية. وقال قتادة في جماعة: الجب بئر بيت المقدس، وقال وهب: بأرض الأردن، وقال مقاتل: على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب، وقيل: بين مدين ومصر. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبو رجاء: تلتقطه بتاء التأنيث، أنث على المعنى كما قال:
إذا بعض السنين تعرفتنا *** كفى الأيتام فقد أبى اليتيم
والسيارة جمع سيار، وهو الكثير السير في الأرض. والظاهر أن الجب كان فيه ماء، ولذلك قالوا: يلتقطه بعض السيارة. وقيل: كان فيه ماء كثير يغرق يوسف، فنشز حجر من أسفل الجب حتى ثبت يوسف عليه. وقيل: لم يكن ماء فأخرجه الله فيه حتى قصده الناس. وروي: أنهم رموه بحبل في الجب، فتماسك بيديه حتى ربطوا يديه ونزعوا قميصه ورموه، حينئذ وهموا بعد برضخه بالحجارة فمنعهم أخوهم المشير بطرحه من ذلك. ومفعول فاعلين محذوف أي: فاعلين ما يحصل به غرضكم من التفريق بينه وبين أبيه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8